تقرير (كنتم خير أمة)
قَالَ الحَقُّ سُبحَانَه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[١١٠ : آل عمران]
بادئ ذي بدء يجبُ الاتفاتُ إِلى (كُنتُم)، ولماذا الفعل الماضي؟، الذي يظهرُ من خلالِ التَّأَملِ في آياتِ القرآنِ الكريمِ وأُسلوبِه العربي، إِنَّ العربَ كثيرًا ما يقولونَ (كانَ فلانٌ كذا) ليس لبيانِ حالتِهِ السَّابقةِ، إِنَّما لبيانِ شأنِهِ وحالتِهِ الطَّبيعيَّةِ، نحو قولِه تعـــالى ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[١١١ : النِّساء]، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[٩٦ : النِّساء]، ﴿وكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ مُقتَدِرًا﴾[٤٥ : الكهف]، أَي إِنَّ هٰذا شأنُ الله(عَزَّ وجَلَّ)، وقولِه تعـــالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[١٥ : الإِسراء]، فليسَ المعنَى أَنَّ في السَّابقِ لَم يُعذِّب، إِنَّما المُرادُ من الإِخبارِ بالماضويَّةِ أَن ليسَ مِن شَأنِهِ أَنْ يُعذِّبَ، ﴿وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾[٣٧ : يونس] أَي ليسَ من شأنِهِ أَن يُفتَرى، إِذَن عودًا على بدئٍ، نقول في المقام: إِنَّ مجيء (كانَ) في الآية الكريمة في زمنٍ النَّاسُ فيهِ موجودونَ يَقتَضِي أَلَّا تكونَ بمعنَى الإِخبارِ عَن المَاضِي بَل الإِخبارِ عَن الشَّأن وما ينبَغي أَن يكونَ عليهِ الشَّيءُ، بمعنَى (أَنَّ شَأنَكم خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ).
ولو انتقلنا إِلى ما بَعدَها أَي قوله تعالى (تَأمرُونَ بالمَعرُوفِ)، وتسَاءَلنا عن موقِعِها بالنِّسبَةِ لمَا قَبلَها، فهي إمَّا نعتٌ أَو حالٌ، أَمَّا الأَوَّلُ فبعيدٌ من حيثُ المَعنَى والمُراد، وأَمَّا الثَّاني فهو الرَّاجحُ، وكأَن المعنَى أَنَّ الله -عَزَّ وجَلَّ- قَدَّرَ (أَنَّ مِن شأنِكم أَن تكُونُوا خَيرَ الأُمَمِ مَا دُمتُم آمِرِينَ بالمَعرُوفِ ونَاهِينَ عَن المُنكَرِ)، والخلاصَة أَنَّ (كُنتُم) خبرٌ عن ماضٍ لا يُرادُ بهِ المُتبَادَرُ منهُ، بل يُرادُ منهُ الإِشارَةُ إِلى الشَّأنِيَّةِ، وهذَٰا الحُكمُ الشَّأنِيُّ مَنوطٌ بالحَالِ الآتِي لاحِقًا وهو الأَمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ، إِذ لن تكونوا خير الأُمم إذا لم تأمروا وتنهوا، وظاهِرُ إِطلَاقِ الآياتِ الكَريمَةِ -وإِن كانَت بِلِسَانِ الخِطَابِ- إِلَّا أَنَّها تَعمُّ جميعَ المُسلِمِينَ، وحَملُها على خُصوصِ (الصَّحابَةِ) خِلافُ الظَّاهِر، تمَامًا كقولِه تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾[١١ : النِّساء]، إِذ الأَصلُ فيهِ هو العُمومُ لجمِيعِ المُسلمِينَ ما لَم يأتِ مُقيِّدٌ يُقيِّده. اه.
#كشاجم_مرتضى_فيلي